فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.سؤالان:

السؤال الأول: أنه تعالى لما قال: {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} كان من حقه أن يذكر عقيبه ما يدل على ذلك وقوله: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} لا يدل على أنه لبث مائة عام بل يدل ظاهرًا على ما قاله من أنه لبث يومًا أو بعض يوم.
والجواب: أنه كلما كانت الشبهة أقوى مع علم الإنسان في الجملة أنها شبهة كان سماع الدليل المزيل لتلك الشبهة آكد ووقوعه في العمل أكمل فكأنه تعالى لما قال: {بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ} قال: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ} فإن هذا مما يؤكد قولك {لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} فحينئذ يعظم اشتياقك إلى الدليل الذي يكشف عن هذه الشبهة، ثم قال بعده {وانظر إلى حِمَارِكَ} فرأى الحمار صار رميمًا وعظامًا نخرة فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى، فإن الطعام والشراب يسرع التغير فيهما، والحمار ربما بقي دهرًا طويلًا وزمانًا عظيمًا، فرأى ما لا يبقى باقيًا، وهو الطعام والشراب، وما يبقى غير باق وهو العظام، فعظم تعجبه من قدرة الله تعالى، وتمكن وقوع هذه الحجة في عقله وفي قلبه.
السؤال الثاني: أنه تعالى ذكر الطعام والشراب، وقوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ} راجع إلى الشراب لا إلى الطعام.
والجواب: كما يوصف الشراب بأنه لم يتغير، كذلك يوصف الطعام بأنه لم يتغير، لاسيما إذا كان الطعام لطيفًا يتسارع الفساد إليه، والمروى أن طعامه كان التين والعنب، وشرابه كان عصير العنب واللبن، وفي قراءة ابن مسعود رضي الله عنه {وانظر إِلى طعامك وهذا شرابك لم يتسنن}. اهـ.

.سؤال:

فإن قيل: ما فائدة الواو في قوله: {وَلِنَجْعَلَكَ} قلنا: قال الفرّاء: دخلت الواو لأنه فعل بعدها مضمر، لأنه لو قال: وانظر إلى حمارك لنجعلك آية، كان النظر إلى الحمار شرطًا، وجعله آية جزاء، وهذا المعنى غير مطلوب من هذا الكلام، أما لما قال: {وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً} كان المعنى: ولنجعلك آية فعلنا ما فعلنا من الإماتة والإحياء، ومثله قوله تعالى: {وكذلك نُصَرّفُ الأيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ} [الأنعام: 105] والمعنى: وليقولوا درست صرفنا الآيات {وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام: 75] أي ونريه الملكوت. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}.
لم يكن لك سؤال جحدٍ، ولا قضية جهل، ولا دلالة شكٍ في القدرة، فإن هذا الخبر عن عُزَيْر النبي عليه السلام، والأنبياءعليهم السلام لا يجوز عليهم الشّكُّ والجهل، ولكنه كان سؤال تعجُّب، وأراد بهذه المقالة زيادة اليقين، فأراه الله ذلك في نفسه، بأن أماته ثم أحياه ثم بعث حماره وهو ينظر إليه، فازداد يقينًا على يقين. وسؤالُ اليقين من الله، والحيلةُ في ردِّ الخواطر المشكلةُ، دَيْدَنُ المتعرفين، ولذلك.... الله سبحانه عُزيرًا في هذه المقالة حتى قدَّر عليه ما طلب من زيادة اليقين فيه. ثم قال: {واعلم أن الله على كل شيء قدير} من الإحياء والإماتة أي ازددت معرفة بذلك، وأراني من عظيم الآيات ما أزداد به يقينًا؛ فإنَّ طعامه وشرابه لم يتغيرا في طول تلك المدة، وحماره مات بلا عظام والطعام والشراب بالتغيير أَوْلى. اهـ.

.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قوله تعالى: {أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ}.
قال ابن عطية عن ابن عباس وجماعة: هو عزيز بن منبه، وجماعة هو أرمياء.
وقال ابن اسحاق أرميا هو الخضر.
وضعفه ابن عطية.
قال: إلاّ أن يكون اسما وافق اسما لأن الخضر هو معاصر لموسى عليه السلام، والّذي مر على القرية هو بعده بزمان من سبط هارون فيما روى وهب بن منبه.
قال ابن عرفة: هذا بناء منه على أنّ الخضر عليه السلام مات والنّاس يقولون: لم يزل حيا إلى الآن على أنّ العلماء قد حكوا في موته خلافا.
قال ابن عرفة: وعطفه بغير فاء دليل على سرعة القول حتى أنه قال ذلك مع المرور لا بعده وتعجب من نفس الإحياء أو من كيفيته.
قوله تعالى: {بَعْدَ مَوْتِهَا}.
ولم يقل من بعد موتها إشارة إلى كمال التأخر والانفصال عن أزمنة البعدية لا أوّلها والمجاز فيها من أحد وجهين: إما أن يراد بالإحياء العمارة وبالموت الخراب أو يكون الإحياء حقيقة، والموت كذلك والمراد بعد موت أهلها.
قوله تعالى: {ثُمَّ بَعَثَهُ}.
قيل لابن عرفة: ثم للمهلة ولا مهلة بين المائة عام وبين البعثة؟
فقال: إما أن يعتبر أول أزمنة المائة عام أو نقول: المائة عام ماهية مركبة من أجزاء والإماتة بعد مجموعها، ولا تسمى الماهية إلا بكمال أجزائها فكانت المهلة بين إماتته مائة عام وبعثه لابين آخر جزء مائة.
قوله تعالى: {قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ}.
قالوا: إنه مات في أول النهار ضحوة وبُعث آخر النهار فقال: لبثت يوما ثم نظر فوجد الشّمس لم تزل على الجدران فقال: بعض يوم.
قيل لابن عرفة: وكذلك كان يقول: لو وجدها غابت لأنه ما مات إلا ضحوة بعد مضي بعض النهار؟
فقال: ما اعتبر إلاّ ما بعد موته وما قبله كان فيها فيها مستصحبا الحياة.
قوله تعالى: {فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ}.
الفاء للسببية والنّظر البصر ويستلزم العلم لقول الله: {أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}.
وقوله: {لَمْ يَتَسَنَّهْ}.
الزمخشري حمله على ثلاثة أوجه:
أحدها: لم تمرّ عليه السنون لعدم تغيره مثل عَلى لا حب لا يهتدي بمناره فبقاؤه دال على عدم مرور السنين عليه ومرور السّنين عليه يقتضي عدم بقائه.
الثاني: أنّ معناه لم يتغير.
قوله تعالى: {كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا}.
قال أبو حيان: أعربوا {كَيْفَ نُنشِزُهَا} حالا من العظام أي انظر إلى العظام محياة.
وردّ بأن الجملة الاستفهامية لا تقع حالا وإنما تقع حالا كيف وحدها.
قال ابن عرفة: يصح ذلك على إضمار القول كما قال: جاؤوا بمذق هل رأيت الذيب قط؟.
قوله تعالى: {نُنشِزُهَا}.
على قراءة الرّاء معناه نحييها فيحتج به على أن العظام تحلمها الحياة.
قوله تعالى: {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ}.
وقال أولا: {أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا}؟
قال ابن عرفة: إن كان كافرا فظاهر، وإن كان مؤمنا فمذهبنا على القول بأن العلوم النظرية تتفاوت بالقوة والضعف خلافا لقول أبي بكر الصديق رضي الله عنه لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.
فهذا كان يعلم ذلك لكن علم المشاهدة أقوى من علم ما هو غائب.
قيل لابن عرفة: إنّ بعض الناس يجري على لسانه: يا حمار عزير.
فقال: يتقدم إليه وينهى عن ذلك فإن عاد إليه فلا يبعد أن يقال: إنه يؤدب.
قلت: في كتاب القذف من التهذيب ومن قال: يا شارب خمر أو يا خائن، أو يا آكل الربا، أو يا ابن الحمار، أو يا ثور، أو يا خنزير فعليه النكال.
وفي المدارك للقاضي أبي الفضل عياض رحمه الله في باب نوادر من أخبار مالك سأله رجل عمن قال للآخر: يا حمار؟ قال: يجلد.
قال: وإن قال له: يا فرس؟ قال: تجلد أنت.
ثم قال: يا ضعيف هل سمعت أحدا يقول: يا فرس؟. اهـ.

.قال القرطبي:

روي في قصص هذه الآية أن الله تعالى بعث لها مَلكًا من الملوك يعمرها ويجدّ في ذلك حتى كان كمال عمارتها عند بعث القائل.
وقد قيل: إنه لما مضى لموته سبعون سنة أرسل الله ملِكًا من ملوك فارس عظيمًا يقال له كوشك فعمّرها في ثلاثين سنة. اهـ.

.قال ابن عطية:

وكثر أهل القصص في صورة هذه النازلة تكثيرًا اختصرته لعدم صحته. اهـ.

.من فوائد الشعراوي في الآية:

قال رحمه الله:
{أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِي هَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا}.
وعندما ننظر إلى بداية الآية نجدها تبدأ بأو، وما بعد أو يكون معطوفًا على ما قبلها، فكأن الحق يريد أن يقول لنا: أو {ألم تر} إلى مثل الذي مر على قرية. وعندما تسمع كلمة قرية فإنها تفيد تجمع جماعة من الناس يسكنون في مكان محدود، ونفهم أن الذي مر على هذه القرية ليس من سكانها، إنما هو قد مر عليها سياحة في رحلة. ونلحظ كذلك أن الحق سبحانه لم يشأ أن يأتي لنا باسم القرية أو باسم الذي مر عليها. قال البعض: إنه هو أرمياء بن حلقيا أو هو الخضر، أو هو عزيز، وقد قلنا من قبل: إنه إذا أبهم الحق فمعناه: لا تشخص الأمر، فيمكن لأي أحد أن يحدث معه هذا.
{أو كالذي مر على قرية}. وقالوا: إنها بيت المقدس، {وهي خاوية على عروشها} وحتى نفهم معنى خاوية على عروشها، لنا أن نعرف أنني عندما أقول: أنا خويان أي أنا بطني خاوية: جوعان فخاوية المقصود بها أنها قرية خالية من السكان، وقد تكون أبنيتها منصوبة، لكن ليس فيها سكان، والحق بقوله عن تلك القرية: إنها خاوية على عروشها، والعرش يطلق على البيت من الخيام، ويطلق كما نعرف على السقف، فإذا قال: {خاوية على عروشها} أي أن العرش قد سقط أولا، ثم سقطت الجدران عليه، مثلما نقول في لغتنا العامية: جاب عاليها على واطيها.
وعندما يمر إنسان على قرية مثل هذه القرية فلابد أن مشهدها يكون شيئًا لافتا للنظر، قال: {أنى يحيي هذه الله بعد موتها} فكأنه يسأل عن القرية، وعن إماتة وإحياء الناس الذين يسكنون القرية. والحق حين يذكر القرية في القرآن فهو يقصد في بعض الأحيان الحديث عن أهلها مثل قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)} سورة يوسف.
إن أبناء يعقوب عليه السلام حين عادوا من مصر وتركوا أخاهم الأصغر مع يوسف عليه السلام قالوا لأبيهم: أرسل من يأتيك بشهادة أهل مصر واسأل بنفسك زملاءنا الذين كانوا معنا في القافلة، وسيقولون لك: إننا قد تركنا أخانا بمصر. لكن سؤال الذي مر على القرية الخاوية على عروشها هو سؤال عن أهلها. {أنى يحيى هذه الله بعد موتها} وساعة تسمع أنى فهي تأتي مرة بمعنى كيف، ومرة تأتي بمعنى: من أين، والمناسب لها هنا هو أن يكون السؤال كالتالي: {كيف يحيي الله هذه بعد موتها}؟ وقوله هذا يدل على أنه مؤمن، فهو لا يشك في أن قضية الإحياء من الله، وإنما يريد أن يعرف الكيفية، فكأنه مؤمن بأن الله هو الذي يحيي ويميت، وهذه ستأتي في قصة سيدنا إبراهيم: {أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى} من الآية [260 سورة البقرة].
هو لا يشك في أن الله يحيي الموتى، إنما يريد أن يرى كيف تتم هذه الحكاية؛ لأن الذي يريد أن يعرف كيفية الشيء، لابد أن متعجب من وجود هذا الشيء، فيتساءل: كيف تم عمل هذا الشيء؟ مثلما نرى الأهرام، ونحن لا نشك أن الأهرام مبنية بهذا الشكل، لكننا نتساءل فقط: كيف بنوها؟ كيف نقلوا الحجارة بضخامتها لأعلى ولم يكن هناك سقالات أو روافع آلية؟ إذن فنحن نتعجب فقط، والتعجب فرع الإيمان بالحدث.
والسؤال عن الكيفية معناه التيقن من الحدث، فقول الحق: {أنى يحيي هذه الله}.. يعني: كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها، فكأن القائل لا يشك في أن الله يحيي، ولكنه يريد الكيفية، والكيفية ليست مناط إيمان، فالله لم ينهنا عن التعرف عن الكيفية؛ فهو يعلم أننا نؤمن بأنه قادر على إيجاد هذا الحديث.
وأضرب هذا المثل- ولله المثل الأعلى- فمصمم الملابس عندما يقوم بتفصيل أزياء جميلة، أنت تراها، فأنت تتيقن من أنه صانعها، ولكنك تتعجب فقط من دقة الصنعة، وتقول له: بالله كيف عملت هذه؟ كأنك قد عشقت الصنعة! فتشوقت إلى معرفة كيف صارت، فما بالنا بصنعة الحق تبارك وتعالى؟ إنك تندهش وتتعجب لتعيش في ظل السر السائح من الخالق في المخلوق، وتريد أن تنعم بهذه النعم.
ومثال آخر- ولله المثل الأعلى من قبل ومن بعد- أنت ترى مثلا لوحة رسمها رسام، فتقول له: بالله كيف مزجت هذه الألوان؟ أنت لا تشك في أنه قد مزج الألوان. بل تريد أن تسعد نفسك بأن تعرف كيف رسمها، إذن فقوله وقول إبراهيم بالسؤال في الإحياء والإماتة فيما يأتي ليس معناه أنه غير مؤمن بل هو عاشق ومشتاق لأن يعرف الكيفية؛ ليعيش في جو الإبداع الجمالي الذي أنشأ هذه الصنعة.
ونعلم أن إحياء الناس سيترتب عليه إحياء القرية، فالإنسان هو باعث الحركة التي تعمر الوجود، والناس لهم حياة ولهم موت، والقرية بأنقاضها وجدرانها وعروشها لها حياة ولها موت. وعندما سأل العبد هذا السؤال، أراد الله أن تكون الإجابة تجربة معاشة في ذات السائل؛ لذلك يأتي القرآن بالقول: {فأماته الله مائة عام}. إن صاحب السؤال قد أراد أن يعرف الكيفية، وطلبه هو إيمان دليل، ليصبح فيما بعد إيمانا بواقع مشاهد {فأماته الله مائة عام} لقد جعل الله الأمر والتجربة في السائل ذاته وهذا إخبار الله. لقد أماته مائة عام، والعام هو الحول، وقد سموا {الحول} عاما؛ لأن الشمس تعوم في الفلك كله في هذه المدة، والعوم سبح، والحق يقول: {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)} من الآية [40 سورة يس].
ولذلك نسميه عامًا. {فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يومًا أو بعض يوم}، فكأن الله قال له كلامًا كما كلم موسى، أو سمع صوتًا أو ملكًا أو أن أحدًا من الموجودين رأى التجربة. فالمهم أن هناك سؤالًا وجوابًا. ويخبرنا الحق سبحانه بحوار دار في هذا الشأن، السؤال هو: كم لبثت؟ فأجاب الرجل: لبثت يومًا أو بعض يوم.
وإجابة الرجل تعني أنه قد تشكك، فقد وجد اليوم قد قارب على الانتهاء أو انتهى، أو أنه عندما رأى الشمس مشرقة أجاب هذه الإجابة: {لبثت يومًا أو بعض يوم} أو يكون قد قال ذلك؛ لأنه لا يستطيع أن يتحكم في تقدير الزمن. فهل هو صادق في قوله أو كاذب؟ إنه صادق، لأنه لم ير شيئًا قد تغير فيه ليحكم بمقدار التغير، فلو كان قد حلق لحيته مثلًا، وقام بعد ذلك ليجد لحيته قد طالت، أو قد نام بشعر أسود، وقام بعد ذلك بشعر أشيب، فلو حدثت أية تغيرات فيه لكان قد لمسها، لكنه لم يجد تغيرًا.
فماذا كان جواب الحق؟ قال الحق: {بل لبثت مائة عام}. إننا هنا أمام طرفين ويكاد الأمر أن يصبح لغزًا، وطرف يقول: {لبثت يومًا أو بعض يوم} ورب يقول: {بل لبثت مائة عام}. ونريد أن نحل هذا اللغز. إن الحق سبحانه صادق في حدود ما رأى من أحواله. ونريد دليلا على هذا، ودليلا على ذاك. نريد دليلا على صدق العبد في قوله: {لبثت يومًا أو بعض يوم}. ونريد من الحق سبحانه وتعالى دليل اطمئنان لا دليل برهان على أن الرجل قد مات مائة عام وعاد إلى الحياة.
ونقول: إن في القصة ما يؤيد {لبثت يوما أو بعض يوم}، وما يؤيد {بل لبثت مائة عام}، فقد كان مع الرجل حماره، وكان معه طعامه وشرابه من عصير وعنب وتين. فقال الحق سبحانه وتعالى: {لبثت مائة عام}، وأراد أن يدلل على الصدق في القضيتين معًا قال: {فانظر إلى طعامك وشرابك لم يتسنه}، ونظر الرجل إلى طعامه وشرابه فوجد الطعام والشراب لم يتغيرا، وهذا دليل على أنه لم يمكث إلا يوما أو بعض يوم، وبذلك ثبت صدق الرجل، بقيت قضية {مائة عام}.
فقال الحق: {وانظر إلى حمارك ولنجعلك آية للناس} وهذا القول يدل على أن هنا شيئا عجيبا، وأراد الله أن يبين له بنظرة إلى الحمار دليلًا على صدق مرور مائة عام، ووجد الرجل حماره وقد تحول عظامًا مبعثرة، ولا يمكن أن يحدث ذلك في زمن قصير، فإن موت الحمار أمر قد يحدث في يوم، لكن أن يرم جسمه، ثم ينتهي لحمه إلى رماد، ثم تبقى العظام مبعثرة، فتلك قضية تريد زمانًا طويلًا لا يتسع له إلا مائة عام، فكأن النظر إلى الحمار هو دليل على صدق مرور مائة عام، والنظر إلى الطعام دليل على صدق {يومًا أو بعض يوم}.
فالقضية إذن قضية عجيبة، وكيف طوى الزمن في مسألة الطعام، وكيف بسط الزمن في مسألة الحمار. إنه سبحانه يظهر لنا أنه هو القابض الباسط، فهو الذي يقبض الزمن في حق شيء، ويبسط الزمن في حق شيء آخر، والشيئان متعاصران معا. وتلك العملية لا يمكن أن تكون إلا لقدرة طليقة لا تملكها النوامي الكونية. وقد قال الحق سبحانه: {ولنجعلك آية للناس}، فمن هم الناس الذين سيجعل الله من قضية الذي مر على قرية آية لهم؟ كان لابد أن يوجد أناس في القصة، لكن القرية خاوية على عروشها، وليس فيها إنسان أو بنيان، أهم الذين كانوا في القرية أم سواهم؟ قال بعض المفسرين هذا، وقال البعض الآخر الرأي المضاد.
وأصدق شيء يمكن أن يتصل بصدق الله في قوله: {ولنجعلك آية للناس} هو قبض الله للزمن في حق شيء، وبسطه في حق شيء آخر، وعزيز كما قال جمهرة العلماء هو الذي مر على قرية، وعزيز هذا كان من الأربعة الذين يحفظون التوراة، فلم يحفظ التوراة إلا أربعة: موسى، وعيسى، وعزيز، ويوشع، وقد أراه الله العظام وكيف ينشزها ويرفعها فتلتحم ثم يكسوها لحما، أي أراه عملية الإحياء مشهديًا، وفي هذا إجابة للسؤال: {أتى يحيي هذه الله بعد موتها}؟ والحق يقول: {وانظر إلى العظام كيف ننشزها} و{ننشزها} أي نرفعها، ورأى {عزيز} كل عظمة في حماره، وهي ترفع من الأرض، وشاهد كل عظمة تركب مكانها، وبعد تكوين الهيكل العظمي للحمار بدأت رحلة كسوة العظام لحمًا، وبعد ذلك تأتي الحياة.
لقد وجد عزيز إجابة في نفسه، ووجد إجابة في الحمار، ومن بعد ذلك تذكر قريته التي خرج منها، وأراد العودة إليها، فلما عاد إليها وجد أمرها قد تغير بما يتناسب مع مرور مائة عام، وكان في تلك القرية مولاة لهم، أي أمة في أسرته، وكانت هذه الأمة قد عميت وأصبحت مقعدة، فلما دخل وقال: أنا العزيز. قالت الأمة: ذهب العزيز من مائة عام ولا ندري أين ذهب ولم يعد؟ قال: أنا العزيز. قالت: إن للعزيز علامة، هذه العلامة أنه مجاب الدعوة، ولم تنس نفسها. قالت: فإن كنت العزيز فادع الله أن يرد علي بصري وأن يخرجني من قعودي هذا. فدعا عزيز الله فبرئت، فلما برئت؛ نظرت إليه فوجدته هو العزيز فذهب إلى قومها وأعلنت أن العزيز قد عاد. وبعد ذلك ذهب العزيز إلى ابنه، فوجده رجلا قد تجاوز مائة سنة، وكان العزيز لا يزال شابا في سن خمسين سنة.
ولذلك ترى الشاعر يقول ملغزًا:
وما ابن رأى أباه وهو في ضعف عمره؟

والمقصود بهذا اللغز هو العزيز الذي أماته الله وهو في الخمسين ثم أحياه الله في عمره نفسه بعد مائة عام، والتقى العزيز بابنه. قال الابن: كنت اسمع أن لأبي علامة بين كتفيه شامة. فلما كشف العزيز كتفه لابنه وجد الشامة. وتثبت أهل القرية من صدق عزيز: بشيء آخر هو أن بختنصر حينما جاء إلى بيت المقدس وخربها حرق التوراة، إلا أن رجلا قال: إن أباه قد دفن في مكان ما نسخة من التوراة، فجاءوا بالنسخة، قال العزيز: وأنا أحفظها. وتلا العزيز التوراة كما وجدت في النسخة، فصدق القوم أنه العزيز، وتعجب الناس وهم يشاهدون ابنا تخطى المائة وأبا في سن الخمسين. ولذلك يذيل الحق الآية بالقول: {قال أعلم أن الله على كل شيء قدير}.
ألم يكن قبل ذلك يعلم أن الله على كل شيء قدير؟ نعم كان يعلم علم الاستدلال، وهو الآن يعلم علم المشهد، علم الضرورة، فليس مع العين أين. إذن ف {أعلم أن الله على كل شيء قدير} هي تأكيد وتعريف بقدرة الله على أن يبسط الزمن ويقبضه، وقدرة الله على الإحياء والإماتة، فصار يعلم حق اليقين بعد أن كان يعلم علم اليقين.
وهذه المسألة تفسر ما يقوله العلم الحديث عن تعليق الحياة. ومعنى تعليق الحياة هو يشبه ما تفعله بعض الثعابين عندما تقوم بالبيات الشتوي، أي تنكمش في الشتاء في ذاتها ولا تبدي حركة، وتظل هكذا إلى أن يذهب الشتاء، ومدة البيات الشتوي لا تحتسب من عمر الثعابين، ولذلك يقال: إن ذلك هو عملية تعليق الحياة. وهذه العملية التي قد نفسر بها مسألة أهل الكهف. فأهل الكهف أيضا مرت عليهم العملية نفسها: {وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} من الآية [19 سورة الكهف].
إنهم لم يروا شيئًا قد تغير فيهم. وبعد ذلك قال الحق سبحانه: {وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِئَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25)} سورة الكهف.
إن الله حدد الزمن الذي لبثوه، بينما هم قالوا: إن الزمن هو يوم أو بعض يوم. ومعنى ذلك أنهم عندما ناموا هذا اللون من النوم واستيقظوا وجدوا أنفسهم على حالتهم التي كانت قبل هذا اللون من النوم. إذن فقد علق الله حياتهم. ونلاحظ أن كل هذه العملية قد جاءت هنا في قصة العزيز بعد آية الكرسي التي تصور العقيدة الإيمانية: {اللّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} سورة البقرة.
وتصور قضية الحياة وقضية الموت ونعلم أن إبراهيم حين حاجه الرجل وقال له: {أنا أحيي وأميت} نقل إبراهيم الحجة إلى الليل والنهار، وطلب منه أن يعكس آية الليل والنهار، فقال للرجل: {فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر}.
وحتى لا يظن أحد أن إبراهيم عليه السلام إنما ترك الكلام عن الإحياء والإماتة فرارًا من الجدل. ونقل الأمر إلى الشمس، لكن أراد الله أن يأتي بقصة هذا الإنسان الذي مر على قرية وهي خاوية، فيحدث له كل ما تقدم ليثبت الحق لنا أن قضية الحياة وقضية الموت بيده وحده. وليخرج الحق سبحانه أمر الحياة والموت عن مجال السفسطة الجدلية. وعرفنا أن قبل معنى السفسطة الجدلية حينما تعرضنا لقول الذي حاج إبراهيم في ربه باثنين من المسجونين وقال: أنا أستطيع أن أقل واحدا، وأن أترك الثاني بلا قتل.
هذه هي السفسطة: إنه لم يحيي، بل أبقى حياة. وعرفنا أن الإحياء ضد الإماتة؛ لأن الإماتة هي أن تخرج الروح من الجسد بدون جرح، أو نقض بنية، أو عمل يفعله الإنسان في البدن. أما إذا فعل إنسان أي شيء من هذه الأفعال ضد إنسان آخر فلا يقال إنه أماته بل يقال لقد قتله. والموت كما عرفنا غير القتل. وتأتي بعد ذلك قصة لإبراهيم أيضا بعد أن نقل الجدل مع الرجل إلى الشمس، فبهت الرجل الذي كفر، أما إبراهيم عليه السلام فهو يؤمن بقدرة الله، لكنه يريد أن يعرف الكيفية. إن إبراهيم عليه السلام لم يكن شاكا لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال: رب أرني كيف تحيي الموت قال: أو لم تؤمن قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي». أخرجه البخارى في كتاب الأنبياء. ونحن المسلمين لم نشك في هذا الأمر. إذن، فإبراهيم عليه السلام لم يشك من باب أولى بدليل منطوق الآية حين قال الحق سبحانه: {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}. اهـ.